لن أنسى يا جدي تلك الليلة الموحشة، الليلة الحالكة الظلام، حينما طلبت مني عدم خلع حذائي، والمبيت في ثيابي! واحتضنتي برفق لأنام فوق صدرك الدافئ المتلهب..
أدركت عندها أنك قد عقدت العزم على الرحيل.. فبالأمس القريب نزح أهل قريتنا، وتمزق جمعنا..استيقظت يا جدي على صوت بكائك، وزخات دموعك، فإذا بك تقبض بشدة على مفتاح بيتنا وتنوح:
عشقت الوطن يا حفيدتي ! وعشقت فيه روح الطهارة والإباء / وعشقت المرج والزهر فيه، والحجر / وعشقت هامات الجبال والضوء، والمطر/ كانت هناك فتاة في عمر الورود.. اسمها الوطن / أحبها الجلاد يومًا، أرادها دمية وحقيبة / أرادها الجلاد راقصة في حانات المجون الرهيبة / ولم يدرِ الجلاد يا حفيدتي..عشق الوطن لا يقدر بثمن.
ضاع المفتاح يا جدي!
لله درك يا جدي! تودع البيت والمنجل، تدع البيدر والمعول، وتقبض على المفتاح وترحل. آه ما أبعد خيام النازحين! وما أضيق مخيمات المُبْعَدين! إلى متى سنظل بين مد أعدائنا وجزر إخواننا لاجئين، لاجئين..لاجئين؟! رحل الأجداد وتناثرت الأمجاد، وطغى الجلاد، وعفت الديار، وتفرق القوم أيدي "وطن"! فركبنا البيداء، وهبطنا الأغوار، وصعدنا الجبال، وعبرنا الأسلاك والأشواك، وقتلك الحنين يا جدي، وأهلكك الشجن.
ضاع المفتاح يا جدي!
قبل يومين تعرفت على عائشة في مخيم الوحدات، وعائشة ابنة صاحب الطابون أبو مسعود الكاكوني، التقيت بها هنا في السوق الشعبي، تبحث عن خبز أسود! ما أجمل ثوبها المقدسي المطرز، ونشطة منديلها الثلاثية! أخبرتني أنها تتعلم في الجامعة العلوم السياسية، وأختها الوسطى فاطمة تزوجت من بلال الجاعوني، ويعيشان معًا في مخيم صبرا، وحينما سألتها عن مفتاح بيتهم .. تنهدت وقالت: "يا حسرتاه! وضعناه في جهاز أختي العروس، وفقدناه في الطريق إلى لبنان".
ضاع المفتاح يا جدي!
"لنا قنطرة في الرملة، ولخالي بئر في بيسان. لعمتي حاكورة في البروة، ولجدتي بيدر في عسقلان". هذه أغنية جميلة يا جدي! ترددها روضات الأطفال في مخيم شاتيلا، دنوت من الطفلة سلمى وسألتها: "أتعرفين أم خالد! لماذا لا تغنون لها؟". فابتسمت وقالت: "أم خالد هذه جارتنا، وقد كانوا يسكنون في الخالصة، أما أهلي فكانوا يسكنون في عين غزال، قرية جميلة تغازل حقولها أمواج الطنطورة، ونسائم قيسارية".
وحينما سألتها عن مفتاح بيتهم، صمتت ثم قالت: "باعه أبي لأحد السياح بربع دولار".
ضاع المفتاح يا جدي!
ما أصلب شعبنا يا جدي، وما أشد عوده، وما أصبر المبعدين منه والنازحين! فحتى بعد رحيلكم، وتنكر العالم لنا ولكم، لا تزال خيامنا تنتظر الفرج، ومشارف مخيماتنا ترقب الأمل، جمعنا عيدان تفتت شملنا في حزمة واحدة، بعد أن تنكر أوسلو الهزيل لوضع نهاية عادلة لقضيتنا. ورضخ أبطال المؤتمر من قياداتنا لتعليق مصائرنا فوق رفوف القضايا المؤجلة للحل الدائم! ومما زاد الطين بلة، تسابق تجار الخطابات السياسية على شطب هذه القضية المصيرية من سجلات خطاباتهم الفلسطينية. فتطايرت حروف العودة.. وتبعثرت رموز الحلم العربي، وتناثرت الوعود والعهود، وعادت فلول من القيادات الفلسطينية وأنصارها إلى أرض الوطن، بلا مفاتيح، وبلا قضية.
فضاع المفتاح يا جدي!
لكننا .. ما دامت أنشودة الأطفال تتعالى، وما دام بعد العتمة فجر نور يتسامى، سيتعانق زيتون زمارين مع الصفصاف، وتحتضن سنابل راس العين باقورة الأشراف، وسينادي اللجون السجرة، وتزغرد حجارة عين حوض: "عادت مفاتيح الديار يا جدي!".
فكل المفاتيح تتوق للعودة، وتصلي ليوم اللقاء، وستحمل بين أسنانها الصابرة، ذكريات من أمجاد النازحين وآلام اللاجئين للجليل والمثلث، للنقب ولحيفا، ليافا ولعكا، للرملة ولد العرب، ولبيت المقدس والأقصى، ولكل حجر قارع من أجل البقاء.
لن يضيع المفتاح يا جدي..لن يضيع!!