في الأسر يقتلك الاحتلال، يغيّبك في أقبية مظلمة لا ترى معها نور الشمس ولا لون الصبح، يعزلك عن العالم الخارجي، يمنعك من الزيارة، وغالبًا يمنعك من الاتصال بالهواتف الخلوية لتبث شوقك لمن غلوا في نفسك وفرق بينكم القيد والقضبان عبر همس كلمات الحنين، يضني قلبك ألم، ويدمى جسدك دم، إثر تعذيبٍ أهوج، لكنك ما زلت تبصر خلف الغمام سماء ستشرق منها شمس الحرية، تحول الأسر إلى ساحة علم تجني فيها درجات علمية عجز الأحرار عن جنيها، تصنع من الألم نجاحًا وتميزًا، ومن ظلم السجن والسجان تنحت إبداعًا ليس له سقف ولا حدود، فقط لأن احتمالات الحياة لديك مفتوحة لا يقتلها جدار رمادي ولا قضبان فولاذي..
رغم القهر والظلم والعنف الممارس ضدهم ما زالت الحياة تنبض بقلوبهم، يواجهون الألم بالإبداع، والتغييب بالتواصل عبر فنونهم وإبداعاتهم الأدبية والفنية، يحطمون إرادة المحتل، فتعلو الهمم، ويكون الأمل عنوانهم..
"القدس أون لاين" في التقرير التالي ترصد أعمال الأسرى، وكيف استطاعوا بإبداعاتهم الفنية والعلمية المتميزة أن يتَحَدَّوا قهر المحتل في أقبية الزنازين المظلمة الموحشة.. تابع معنا:ـ
حين تُؤسر أحلامك فتبقي في بقعة رمادية، لا ترى منها إلا بصيص نور، فإنك تحررها في إبداعات أخرى تعزز صمودك، معها لا يستطيع الاحتلال تقييد فكرك، قد تشعر بالغربة والضمور، لكنك تتحرر منها سريعًا تطلقها صيحات تواصل إنسانية بكلمات قصائد شعرية تبلور الهم، وتعبر عن الحلم، وإبداعات فنية من حطام الأشياء.
"رنين القيد" مجموعة شعرية أنتجها الأسير الضرير المحرر الشيخ عز الدين عمارنة في ظلمات الأسر، رغم ذهاب بصره اتهمه الاحتلال بالتدبير لتنفيذ عمليتين استشهاديتين في العمق الصهيوني، فقضى بأسره في الأول من يوليو عام 2001 ست سنوات تحرر منها قبل عامين في الرابع من فبراير 2006، يقول: "رغم تقييد حريتي بين أربعة جدران لا أرى معها إلا لون السواد الحالك، لعلة قدّرها الله لي بكف بصري وأسري في سجون الاحتلال، إلا أن تلك الجدران لم تستطع حبس خيالي الواسع، وإحساسي الحر"، وأضاف: "كان كما الطير يحلق بجناحيه في فضاءٍ واسع
ينسج من وحي الألم والمعاناة ومضات شعرية يعبر بها عن الأسر ووحشته ينير بها قلوب المعتقلين المعتمة بفعل عتمة الأسر الرمادية، كلمات أشعار مجموعته "رنين القيد" كانت كما الزهرة تشرق وسط الأشواك".
ويقول الأسير: "منها كنت أستمد صبري، وأبث في قلوب رفاقي المعتقلين الصبر والإيمان والصمود، حينما لُحنت أذابت القيد، وقهرت المحتل الذي حاول القضاء عليها حرقًا في الأسر، لكني كنت أختزنها في ذاكرتي، أحفرها في قلبي كما النقش على الحجر"، ويستطرد: "لأنها تحمل آلام ومعاناة الأسرى، وتبوح بأحلامهم، وتشد عزمهم على المواصلة بمزيد من الصبر والثبات على الدين أسميتها رنين القيد، ليسمع صداها العالم الخارجي، كتبت كلماتها عبر آلة برايل الخاصة بي، ومن ثمَّ لحنتها وسجلتها على شريط كاسيت، فكانت رسالة من الأسرى داخل المعتقلات الصهيونية إلى أبناء شعبهم وأمتهم، تروي مآسيهم ومعاناتهم، وتعبر عن مشاعرهم وأحاسيسهم".
من الحطام ينسجون فنًا
ليس العلم والإبداع الأدبي وحده التحدي الذي يخوضه الأسرى في السجون ليقتلوا الوقت، ويبرزوا ما في مكنونات نفوسهم من طاقات إبداعية في مختلف المجالات، في الأسر تبرز فنون النحت على الحجر، والنقش على الخشب، من النوى يصنعون مسابح تسبح بحمد الله الواحد الأحد، فتمدهم بالصبر، وتعزز الإيمان في قلوبهم، ومن الملابس البالية ينسجون لوحات فنية يجسدون فيها حلم التحرر وعناق الأقصى وتراب الوطن الحبيب، يبتغون من خلالها التواصل مع العالم الخارجي الذي حرمهم منه الاحتلال الصهيوني.
يقول الأسير المحرر سعيد ماهر: أهم الأعمال الفنية التي يعكف على ممارستها الأسرى في سجون الاحتلال الأشغال اليدوية، تجدهم يصنعون من نوى الزيتون المسابح ينحتونها على شكل دائري، ويعمدون إلى ثقبها من الوسط، وربطها جميعًا بخيط سميك يحفظ حباتها من الانفراط، يهدونها للغوالي على قلوبهم من الأهل في زيارة قد يطول انتظارهم لها شهورًا، وإن طالت سنين يهدونهم إياهم عبر أسير محرر، أو أهل أسير ليس ممنوعًا من الزيارة، ويضيف: "كما ينحتون بأناملهم أشكالاً رائعة لقبة الصخرة تعكس ارتباطهم بها، وشغفهم وحنينهم لإبصار تفاصيلها مشرقة محررة من براثن المحتل".
المسجد الأقصى في القلب
في المعرض الدائم لوزارة شئون الأسرى كانت تتناثر أعمال الأسرى الفنية تذكرنا بهم، تمدنا ببعض من صبرهم، وتكسبنا الكثير من العزم والإرادة والتحدي، وصولاً إلى الهدف المبتغى.
هناك في إحدى زوايا المعرض كانت تتربع شامخة كما النخيل يعانق فضاء السماء، غير أن مكوناتها لا تعدو كونها ورقًا وقليلاً من البلاستيك الخفيف، لكنها تنبئ بالعراقة والفن والدقة في نسج التفاصيل الدقيقة، مجسم للمسجد الأقصى ما إن تبصره عيناك حتى تأسرك دقة تفاصيله، وتجذبك ألوانه، رغم مكوناته البسيطة من مخلفات الأسرى، مكوناته بعض من عبوات فارغة لمعجون الأسنان وعلب البسكويت، كان قد أتي بها لهم الأهل في زيارة أخيرة قبل حالة المنع التي أعقبت عملية الحسم العسكري في غزة، بالإضافة إلى الأوراق اللامعة المضمنة لعلب السجائر، أما تفاصيل عمله فتبدأ عند قيام الأسرى بجمع عبوات معاجين الأسنان الفارغة بالتناوب، إلى حين تجميع خمسين عبوة تقريبًا للمجسم الواحد، ومن ثمَّ يبدأ العمل بفتحها طوليًا، وتقطيعها بمختلف الأشكال الهندسية المناسبة والمتوافقة مع هيكل المسجد الأقصى وقبة الصخرة، ويستغلون قطع الكرتون الدائرية في إنتاج أرضية المسجد، بينما أوراق الحلوى وعلب السجائر اللامعة والملونة في صنع نوافذ المجسم، فيبدو كما في الواقع، ويأسرك بدقة تنفيذه.
محاولات تضييق
من ناحيتها، تعمد إدارة السجون إلى إحباط أعمال الأسرى، فبين الحرق والتخريب ومنع إيصال المواد الخام إليهم كالإبرة والخيط تتراوح أعمال التضييق لإنتاج الأسرى مشغولاتهم اليدوية، وإخراجها للعالم، خاصة تلك المشغولات التي تتعلق بالمسجد الأقصى.
وفي هذا السياق، يؤكد المحامي إياد بيادسة، مدير مؤسسة يوسف الصديق، الناشطة بالأراضي المحتلة عام 48، أن سلطات الاحتلال تمنع إدخال بعض المواد الخام الخاصة باستكمال تفاصيل المشغولات اليدوية التي يعكف الأسرى على تنفيذها داخل أقبية زنازينهم: كالإبرة والأسلاك الصغيرة لإثنائهم عن التعبير عن مشاعرهم، واستكمالاً لمسلسل التغييب والعزل عن العالم الخارجي الذي تنتهجه ضدهم، على حد تعبيره.
منارة للعلم
وإن حول الأسير الضرير الشيخ عز الدين عمارنة الزنزانة إلى ساحة فضاء يبحر فيها بأفكاره منتجًا فنًا أدبيًا مُعبرًا عن الأسر ووحشته، فقد استطاع الأسير المحرر ناصر عبد الجواد أن يحول الزنزانة إلى ساحة علم ومعرفة، ولم تمنعه أسوار المعتقل من أن يسافر إلى الولايات المتحدة ليناقش رسالة الدكتوراة التي عنون لها: "نظرية التسامح الإسلامي مع غير المسلمين في المجتمع الإسلامي".
عبر أثير الهاتف الخلوي استطاع الأسير المحرر قبل أعوام من أن يرسل يناقش رسالة الدكتوراة، وكان الأول بين رفاقه الأسرى الذي يحصل على هذه الدرجة العلمية الرفيعة، رغم مرارة الأسر وتغييب السجان، فلم يرغب أن يكون السجن عقوبة له تنتزعه من حياته العلمية التي بدأ تفاصيلها قبل الاعتقال، مؤكدًا أن الأسير يستطيع رغم كل ما يعانيه من قهر واستبداد وعنف صهيوني أن يحول واقعه إلى حياة مليئة بالنجاح في ظل تمتعه بوقت فراغ طويل.
والباحث في خبايا الأسر يجد العشرات من الأسيرات والأسرى يصرون على استكمال تفاصيل مشوارهم التعليمي بين جدران الأسر؛ لكسر إرادة المحتل في تغييبهم وعزلهم عن العالم الخارجي، يتواصلون معه بإنجازاتهم وإبداعاتهم في مختلف المجالات، فكم من أسير استطاع أن ينزع بجدارة شهادة التوجيهي من بين أنياب الأسر، وكذلك البكالوريوس والماجستير و الدكتوراة، غير أن الأخيرتين تكونان خلسة بالتهريب، بعيدًا عن أعين الاحتلال التي غالبًا ما ترفض طلبهم بالسماح لهم باستكمال خططهم العلمية وطموحاتهم، وأحيانًا تعجزهم عن ذلك بالسماح لهم بالدراسة في الجامعات العبرية، فيصرون على التحدي وتكلل محاولاتهم بالنجاح المشرق.
اعتراف دولي
رغم الألم يبزغ الأمل، وبالإرادة والتحدي يثمر عزًا وكبرياءً، ويجبر من حاصرت عقولهم الأوهام على الاعتراف بإبداع الأسير الفلسطيني، وطاقته الجبارة على التحمل، رغم مرارة الاعتقال، وما ينطوي عليه من ممارسات تعذيب وتنكيل.
منظمة أصدقاء الإنسان الدولية قالت في تقرير صدر عنها مؤخرًا: إن الحركة الفلسطينية الأسيرة استطاعت أن تصبر على بلاء المحتل، وتحول المعاناة إلى إبداعات مشرقة ومشرفة يُفتخر بها، عجز عنها الكثيرون ممن تمتعوا بالحرية من دون قيد أو جدار، وأضافت المنظمة: "رغم المواجهات المستمرة مع الاحتلال في السجون بين ضرب ورش بالغاز وتعذيب وقمع وعدوان، لم ينته عند حد القتل بإطلاق الرصاص المباشر على أجساد الأسرى في سجن النقب الصحراوي، ورغم سياسات العزل الانفرادي والتغييب بقطع الاتصال مع العالم الخارجي ومنع الزيارة لفترات طويلة، إلا أن الأسرى الفلسطينيين استطاعوا تنظيم صفوفهم فكريًا وثقافيًا ورياضيًا بشكل فريد، واستطاعوا أن يخرجوا من الأسر قوافل عديدة من حفظة القرآن الكريم والأدباء والشعراء والخطاطين والعديد من الفنانين، كما استطاعوا أيضًا أن يتحدوا إدارة السجن في الدراسة باللغة العبرية، وأتموها بنجاح، بل وأتقنوا الكثير من اللغات داخل الأسر"، وبذلك كانت السجون الصهيونية لديهم محضنًا للعلم والارتقاء، بيد أنها ضحلة تفتقر إلى أبسط الحاجات الإنسانية.